فلسطين في التاريخ الإسلامي
منذالعصر العباسي الثاني الذي ابتدأ بعد منتصف القرن الثالث الهجري ودولة
الخلافة الإسلامية في ضعف مستمر متزايد، حتى تمزقت دولة الإسلام إلى ثلاث
خلافات بدلاً من خلافة واحدة فالخلافة العباسية في المشرق، والخلافة
الفاطمية في مصر وأجزاء من المغرب والشام، والخلافة الأموية في الأندلس،
وفي مثل تلك الأجواء حدثت الحروب الصليبية.
الخريطة السياسية للمنطقة قبيل الحروب الصليبية
قبل بدء الحروب الصليبية بحوالي
أربعين عاماً نجح السلاجقة الأتراك في بسط سيطرتهم على بغداد وتولي الحكم
تحت الخلافة الاسمية للعباسيين. فقد استطاع السلاجقة بسط سيطرتهم على
أجزاء واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينيا وآسيا الصغرى حوالي 1040م ثم
سيطر السلطان السلجوقي طغرل بك على بغداد سنة 1055م، وتوسع السلاجقة على
حساب البيزنطيين في آسيا الصغرى، وفي 19 أغسطس 1071م وقعت معركة ملاذكرد
التي قادها السلطان السلجوقي ألب أرسلان وحلت فيها أكبر كارثة بالبيزنطيين
حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
وفي سنة 1071م سيطر السلاجقة على
معظم فلسطين عدا أرسوف وأخرجوا النفوذ الفاطمي منها وتوسع السلاجقة على
حساب الفاطميين في الشام فاستطاعوا الاستيلاء على معظمها.
وفي سنة 1092م 485 هـ توفي السلطان
السلجوقي ملكشاه فتفككت سلطة السلاجقة، ودخلوا فيما بينهم في معارك طويلة
طاحنة على السيطرة والنفوذ، وفي سنة 1096م أصبحت سلطتهم تتكون من خمس
ممالك: سلطنة فارس بزعامة بركياروق، ومملكة خراسان وما وراء النهر بزعامة
سنجر ومملكة حلب بزعامة رضوان، ومملكة دمشق بزعامة دقاق، وسلطنة سلاجقة
الروم بزعامة قلج أرسلان. وكانت معظم مناطق فلسطين تتبع الحكم في دمشق.
وفي ظل ضعف حاكمي الشام (رضوان ودقاق) ظهرت الكثير من البيوتات الحاكمة
بحيث لا يزيد حكم كثير منها عن مدينة واحدة.
لقد بدأ الصليبيون حملتهم 1098م -
491هـ ومناطق المسلمين في الشام والعراق وغيرها تمزقها الخلافات والصراعات
الدموية، فقد دخل الأخوان رضوان ودقاق ابنا تتش في حرب بينهما سنة 490 هـ،
ووقعت معارك عديدة بين محمد بن ملكشاه وأخيه بركياروق في الصراع على
السلطنة تداولا فيها الانتصارات والخطبة لهما بدار الخلافة 492-497هـ.
الحملة الصليبية الأولى ونتائجها
وفي تلك الأثناء أخذت الأنظار في
أوروبا تتجه نحو الأرض المقدسة بعد أن دعا البابا أوربان الثاني (1088 -
1099م) في مجمع كليرومونت 26 تشرين ثاني / نوفمبر 1095م «لاسترداد»
الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين، تم عقد عدة مجمعات دعا فيها للحروب
الصليبية (ليموج، انجرز، مان، تورز، بواتييه، بوردو، تولوز، نيم) خلال
1095-1096م، وقرر أن كل من يشترك في الحروب الصليبية تغفر له ذنوبه، كما
قرر أن ممتلكات الصليبيين توضع تحت رعاية الكنيسة مدة غيابهم، وأن يخيط كل
محارب صليباً من القماش على ردائه الخارجي.
وبدأت الحملات الصليبية بحملات
العامة أو حملات الدعاة، وهي حملات تفتقر إلى القوة والنظام، وكان منها
حملة بطرس الناسك وهو رجل فصيح مهلهل الثياب حافي القدمين يركب حماراً
أعرج جمع حوله من فرنسا حوالي 15 ألفاً، وفي طريقهم أحدثوا مذبحة في مدينة
مجرية لخلاف على المؤن فقُتل أربعة آلاف، وانضمت إليهم عند القسطنطينية
جموع والتر المفلس، ودخلت حشودهم الشاطئ الآسيوي، وحدثت معركة مع السلاجقة
انتصر فيها السلاجقة وقتلوا من الصليبيين 22 ألفاً ولم يبق من الصليبيين
سوى ثلاثة آلاف. أما حملتا فولكمار وأميخ فقد أقامتا مذابح لليهود في
الطريق، وتشتت الحملتان في المجر!!.
ثم كان ما يعرف بالحملة الصليبية
الأولى وقد شارك فيها أمراء وفرسان أوروبيون محترفون وبدأت الحملة سيطرتها
على مناطق المسلمين منذ صيف 1097م، وأسس الصليبيون إمارة الرها مارس 1098م
بزعامة بلدوين البولوني. وحاصر الصليبيون أنطاكية تسعة أشهر وظهر من شجاعة
صاحب أنطاكية باغيسيان «وجودة رأيه واحتياطه مالم يشاهد من غيره فهلك أكثر
الفرنج ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام»، غير أن
أحد الأرمن المستحفظين على أسوار المدينة راسله الصليبيون وبذلوا له
«مالاً وإقطاعاً» ففتح للصليبيين الباب من البرج الذي يحرسه فاحتل
الصليبيون المدينة، وأسسوا فيها إمارتهم الثانية 491هـ -3 يونيو 1098م،
بزعامة بوهيمند النورماني.
وفي الوقت الذي كان السلاجقة
يتعرضون فيه للزحف الصليبي شمال بلاد الشام، استغل الفاطميون الفرصة
فاحتلوا صور 1097م وسيطروا على بيت المقدس في شباط / فبراير 1098م أثناء
حصار الصليبيين لأنطاكية، واستقل بطرابلس القاضي بن عمار أحد أتباع
الفاطميين، بل أرسل الفاطميون للصليبيين أثناء حصارهم لأنطاكية سفارة
للتحالف معهم وعرضوا عليهم قتال السلاجقة بحيث يكون القسم الشمالي «سوريا»
للصليبيين وفلسطين للفاطميين، وأرسل الصليبيون وفداً إلى مصر ليدللوا على
«حسن نيَّاتهم»!!، وهكذا... فأثناء انشغال السلاجقة بحرب الصليبيين كان
الفاطميون منشغلين بتوسيع نفوذهم في فلسطين على حساب السلاجقة حتى إن
حدودهم امتدت حتى نهر الكلب شمالاً ونهر الأردن شرقاً..!!
وظهرت الخيانات وانكشف التخاذل من
إمارات المدن التي حرصت كل منها على نفوذها و«كسب ود» الصليبيين أثناء
توسعهم ومن ذلك ما حدث من اتصال صاحب إقليم شيزر بالصليبيين حيث تعهد بعدم
اعتراضهم وتقديم ما يحتاجون من غذاء ومؤن بل وأرسل لهم دليلين ليرشداهم
على الطريق!!، وقدمت لهم حمص الهدايا!! وعقدت معهم مصياف اتفاقية!!.. أما
طرابلس فدفعت لهم الجزية، وأعانتهم بالأدلاء، ودفعت بيروت المال، وعرضت
عليهم الدخول في الطاعة إذا نجحوا في احتلال بيت المقدس!!.
تابع ريموند دي تولوز (أمير إقليم
بروفانس وتولوز بفرنسا) قيادة بقية الصليبيين إلى بيت المقدس وكان عددهم
ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة فقط!! وفي ربيع 1099م دخلوا مناطق فلسطين
فمروا بعكا التي قام حاكمها بتموين الصليبيين!! ثم قيسارية ثم أرسوف، ثم
احتلوا الرملة واللد وبيت لحم، وفي 7 حزيران / يونيو 1099م بدأوا حصار بيت
المقدس، وكان حاكمها قد نصبه الفاطميون ويدعى افتخار الدولة، وتم احتلالها
في 15 يوليو 1099 لسبع بقين من شعبان 492هـ. ولبث الفرنج أسبوعاً يقتلون
المسلمين... وقتلوا بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً منهم جماعة
كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم وعبادهم(20). أما الدولة الفاطمية فقد
واجهت الخبر ببرود، كما أن الدولة العباسية لم تحرك ساكناً!!
تولى حكم بيت المقدس القائد الصليبي
جود فري بوايون، وتسمى تواضعاً بحامي بيت المقدس، واستسلمت نابلس، وتم
للصليبيين احتلال الخليل(21).
ويقال إنه لم يبق من الصليبيين إلا
ثلاثمائة فارس وألفين من المشاة ولم يستطيعوا توسيع سيطرتهم، ذلك أن
كثيراً منهم عادوا إلى بلادهم بعد أن أوفوا قسمهم بالاستيلاء على بيت
المقدس(22)، وبذلك أصبحت ممالك الصليبيين كالجزر وسط محيط من الأعداء، ومع
ذلك كتب لها الاستمرار مائتي سنة حتى تم اقتلاع آخرها!! بسبب الإمدادات
والحملات التي كانت تأتيهم بين فترة وأخرى، وبسبب ضعف المسلمين وتشرذمهم،
وعدم استغلالهم لفرصة انسياب وانتشار الصليبيين على مساحات واسعة من الأرض
بأعداد قليلة ليقضوا عليهم، ولكن المسلمين تأخروا حتى قويت شوكة الصليبيين
وأصبح من الصعب اقتلاعها.
وتتابع سقوط مدن فلسطين الأخرى، فقد
كانت يافا قد سقطت أثناء حصار بيت المقدس على يد سفن جنوية في 15 يونيو
1099م، وسيطر الصليبيون على شرق بحيرة طبرية (منطقة السواد) في مايو
1100م، واستولوا على حيفا عنوة في شوال 494 هـ - أغسطس 1100م بمساعدة
أسطول كبير من البندقية، وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وملكوا
قيسارية 17 مايو 1109م بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وذلك في 17
مايو 1101م(23). وهكذا فرض الصليبيون هيمنتهم على فلسطين غير أن عسقلان
ظلت عصية عليهم وكان المصريون (الفاطميون) يرسلون لها كل عام الذخائر
والرجال والأموال، وكان الفرنج يقصدونها ويحاصرونها كل عام فلا يجدون لها
سبيلاً، ولم تسقط عسقلان بأيدي الفرنج إلا في سنة 1153م-548هـ، وكان أهلها
قد ردوا الفرنج مقهورين في ذلك العام، وعندما آيس الفرنج وهموا بالرحيل
أتاهم خبرأن خلافاً وقع بين أهلها فصبروا. وكان سبب الخلاف أن أهلها لما
عادوا قاهرين منصورين ادعى كل طائفة أن النصرة كانت من جهتها، فعظم الخصام
بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب وتفاقم الشر، ووقعت
الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى!! فطمع الفرنج، وزحفوا إلى عسقلان وقاتلوا
«فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه»(24)!! ترى... كم هي الهزائم التي تأتي من
أنفسنا أو نصنعها بأنفسنا؟! {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(25).
وهكذا تأسست مملكة بيت المقدس
الصليبية، ونشير استطراداً إلى تأسيس الفرنج لمملكة صليبية رابعة هي
طرابلس في 11 ذي الحجة 503هـ -12 يوليو 1109م بعد حصار دام سبعة أعوام.
استمرار الصراع (نظرة عامة)
من الصعب أن ندخل في تفصيل الأحداث
سنة بسنة وحادثاً بحادث، خصوصاً أن منهجنا يميل إلى الاختصار ووضع اليد
على النقاط المهمّة الحساسة في سياق حديثنا عن التجربة التاريخية للحل
الإسلامي على أرض فلسطين، غير أن استكمال الصورة ومعرفة مجمل الظروف في
تلك الفترة يقتضي الإشارة إلى المعطيات التالية التي ظهرت خلال الثلاثين
سنة التي تلت الاحتلال الصليبي لبيت المقدس:
- كان عدد الصليبيين محدوداً وقد فرضوا هيمنتهم من خلال قلاع منتشرة كجزر معزولة في العديد من مناطق الشام.
- استمر الصراع والنزاع بين
المسلمين، واستعان بعضهم بالصليبيين على خصومهم، مما أضعف الموقف
الإسلامي، وجعل الصليبيين يلعبون في بعض الأحيان دور الشرطي، ويستفيدون من
ذلك في زيادة نفوذهم وتقوية شوكتهم.
ومن ذلك الصراع بين طغتكين وبكتاش
بن تتش على دمشق، حيث استعان بكتاش 498هـ بالفرنج على خصمه، ولحق به «كل
من يريد الفساد»، غير أن ملك الفرنج لم يعطه سوى التحريض على الإفساد، ثم
استقام الأمر لطغتكين(27). وعندما وقعت معركة بين الفاطميين والفرنج بين
عسقلان ويافا سنة 498هـ ساعدت الفاطميين قوة من دمشق من 300 فارس وساعدت
جماعة من المسلمين بقيادة بكتاش بن تتش الفرنج(28). وعندما جاء جيش
السلطان من العراق سنة 509هـ إلى الشام لجهاد الصليبيين بقيادة برسق بن
برسق خاف حكام دمشق وحلب على نفوذهم من أن يزول فتعاونوا بقيادة طغتكين مع
فرنج أنطاكية ضد جيش السلطان. ثم ما لبث طغتكين نفسه أن قاتل فرنج بيت
المقدس واستعاد رفنية بعد أن استولى الفرنج عليها(29)...، إنه القتال
المرتبط بالمصلحة، فمرة يلبس ثوب الجهاد في سبيل الله، ومرة يلبس ثوب
الدفاع عن «الحق» (الكرسي) تحت حجج الوراثة أو الكفاءة... حتى لو اقتضى
ذلك التحالف مع الأعداء.
- استمر جهاد المسلمين ضد الفرنج
(الصليبيين) دون توقف، وإن كان هذا الجهاد قد افتقر إلى حسن الإعداد
والتنظيم، كما تعدد القادة المسلمون الذين يأتون ويذهبون، كما تعددت محاور
الصراع والاشتباك مع الفرنج في بلاد الشام، وافتقر المسلمون إلى قاعدة
كبيرة قوية تكون منطلقاً دائماً للجهاد، وكثيراً ما كان القتال بين مدينة
أو قلعة إسلامية -تحاول الدفاع عن نفسها أو توسيع نفوذها- وبين الفرنج.
وتداول المسلمون والصليبيون النصر
والهزيمة في المعارك، ولم يكن يمضي عام دون معارك وتبادلوا احتلال المدن
والقلاع، ولم يكن من الصعب على المسلمين أن يدخلوا في وسط فلسطين ويخوضوا
المعارك عند الرملة أو يافا أو غيرهما. غير أن الصليبيين ظلوا يحتفظون
بنفوذهم وهيمنتهم في المناطق التي استولوا عليها.
وظهر عدد من المجاهدين المسلمين
الذين كانت قدراتهم محدودة ولم يتمكنوا من توحيد قوى المسلمين لجهاد
الفرنج، غير أنهم حافظوا على جذوة الجهاد، وألحقوا بالفرنج خسائر كبيرة
وأفقدوهم الاستقرار والأمان وقتلوا أو أسروا العديد من قادتهم
وزعمائهم(30). فمثلاً كان بين معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش حرب،
ولمّا حوصرت حرَّان من قبل الفرنج سنة 497هـ تراسلا وأعلم كل منهما الآخر
أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه فسارا واجتمعا بالخابور في عشرة آلاف من
التركمان والترك والعرب والأكراد فالتقوا بالفرنج عند نهر البليخ، وهزم
الفرنج فقتلهم المسلمون «كيف شاؤوا»، وأسر بردويل وفدى بخمسة وثلاثين
ديناراً و 160 أسيراً من المسلمين وكان عدد قتلى الفرنج يقارب «12»
ألفاً(31).
وفي سنة 507 هـ اجتمع المسلمون من
الموصل وسنجار ودمشق وقاتلوا الفرنج عند طبرية وانتصروا عليهم وأسروا
ملكهم «بغدوين» دون أن يعرف فأخذ سلاحه وأطلق وكثر القتل والأسر في
الفرنج. ثم جاء مدد من جند أنطاكية وطرابلس فقويت نفوس الفرنج وعادوا
للحرب فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية وصعد الفرنج إلى جبل غربي طبرية
ومكثوا 26 يوماً دون أن ينزلوا للقتال، فتركهم المسلمون وساروا إلى بيسان
ونهبوا «بلاد الفرنج» بين عكا إلى القدس وخربوها، ورجع المسلمون. وعاد
مودود بن التونتكين صاحب الموصل مع طغتكين إلى دمشق، وهناك في صحن المسجد
في يوم الجمعة وثب عليه باطني فجرحه أربع جراحات وقُتل الباطني، وأبى
مودود أن يموت إلا صائماً، وكان خيراً عادلاً كثير الخير. ويقال إن طغتكين
هو الذي تآمر عليه. وكتب ملك الفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود كتاباً جاء
فيه: «إن أمة قتلت عميدها يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن
يبيدها»(32)!!
- المسلمون من سكان فلسطين الأصليين
استمروا في سكنهم للبلاد التي احتلها الفرنج، ولكن قسماً منهم هجروها إلى
شرق الأردن ودمشق، وأنفوا من التعاون مع الصليبيين. ولذلك تعطلت الزراعة
في أكثر المدن الساحلية الفلسطينية. وقد عمل هؤلاء على محاربة الصليبيين
وقدموا خدمات للمسلمين المهاجمين، وانضموا إلى كتائب المسلمين في بلاد
الشام وساعدوهم كأدلاء في فلسطين، ويقول المؤرخ الصليبي وليم الصوري عنهم
«إنهم علموا عدونا كيف يدمرنا لأنهم يملكون معلومات كافية عن حالتنا»(33).
وكان من أبرز قادة المسلمين
المجاهدين الأوائل أقسنقر البرسقي الذي ولاه السلطان محمد سنة 508هـ
الموصل وأعمالها وأمره بقتال الفرنج، وخاض أقسنقر المعارك ضد الصليبيين في
شمال الشام، ودخلت -بالإضافة إلى الموصل والجزيرة وسنجار- مدينة حلب سنة
518هـ تحت زعامته فتوسعت جبهته المعادية للصليبيين، غير أنه قُتل رحمه
الله سنة 520هـ على يد الباطنية في الموصل وكان أقسنقر مملوكاً تركياً
خيراً يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة،
يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويقوم الليل(34).
- الدولة الفاطمية في مصر بقيادة
وزيرها الأفضل بدر الجمالي أرسلت حملات عديدة إلى فلسطين وحاولت الدفاع عن
مناطق نفوذها على الساحل، غير أن حملاتها لم تكن بمستوى ما تزخر به مصر من
قدرات وإمكانات، ويظهر أن حملاتها اتخذت طابعاً استعراضياً، وافتقرت إلى
التنسيق الجاد مع القوى الإسلامية في الشام(35). وكان الحكم الفاطمي قد
افتقد مصداقيته الجهادية الإسلامية عندما راسل الفرنج وهم يزحفون باتجاه
بيت المقدس عارضاً التحالف ضد السلاجقة وتقاسم النفوذ في الشام. ومهما
يكن، فإن الدولة الفاطمية كانت في طور الأفول، وكانت تعاني من عوامل الضعف
والانهيار.
جهاد عماد الدين زنكي 521 - 541هـ
انفتحت صفحة جديدة لجهاد الصليبيين
بظهور عماد الدين زنكي بن أقسنقر وبدء عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب،
فقد تولى عماد الدين زنكي أمر ولاية الموصل وأعمالها سنة 521هـ بعد أن
ظهرت كفاءته في حكم البصرة وواسط وتولَّى شحنكية العراق(36)، وفي محرم سنة
522هـ تمت له السيطرة على حلب. وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك
ويحقق الانتصارات على الصليبيين، وعلق ابن الأثير بعد أن تحدث عن انتصار
عماد الدين على الفرنج في معركة كبيرة وملكه حصن الأثارب وحصاره حارم سنة
524هـ... «وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها مالم يكن لهم في
حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك
الجميع»(37).
واستمرت جهود زنكي في توحيد قوى
المسلمين في غزو الصليبيين، فملك زنكي حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا،
والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية،
وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها من الأكراد
الهكارية(38).. . وفي سنة 534هـ حاول زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون
جدوى، فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غير
أن القائم بأمر الحكم هناك معين الدين أنز راسل الصليبيين للتحالف ضد زنكي
ووعدهم أن يحاصر بانياس ويسلمها لهم ووافقوا، ولكن زنكي ذهب إليهم قبل
قدومهم لدمشق فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا. ومع ذلك فإن معين الدين حاصر
بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج ثم استولى علىها وسلمها للفرنج(39)!!
غير أن أشهر ما يذكر من الفتوح
لزنكي هو فتحه للرها وإسقاطه للمملكة الصليبية التي قامت بها، فقد حاصرها
أربعة أسابيع وفتحها عنوة في 6 جمادى الآخرة 539هـ، وفتح ما يتبع هذه
المملكة من أعمال في منطقة الجزيرة، وفتح سروج وسائر الأماكن التي كانت
للفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة(40).
قتل عماد الدين زنكي -بعد أن حمل
راية الجهاد أكثر من عشرين عاماً- في منتصف سبتمبر 1146م- 5 ربيع الأول
541هـ غدراً على يد جماعة من مماليكه بينما كان يحاصر قلعة جعبر(40)، وكان
عمره زاد عن ستين سنة وعلى ما ذكر ابن الأثير فقد كان زنكي شديد الهيبة في
عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف، وكانت البلاد
قبل أن يملكها خراباً من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج، فعمّرها
وامتلأت أهلاً وسكاناً «وكان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً،
وكان شجاعاً مقداماً حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس
غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة»(43). واشتهر
عماد الدين بعد مقتله بلقب «الشهيد».
لقد عمل عماد الدين زنكي في أجواء
صعبة من نزاع بين أمراء وزعماء السلاجقة أنفسهم، وبينهم وبين الخليفة
العباسي في أحيان أخرى، ومن أجواء الحكم الوراثي، ونزعة الكثيرين للسيطرة
والزعامة حتى ولو على مدينة أو قلعة واحدة، كما عاش فترة كانت القوى
الصليبية لا تزال تملك الكثير من القوة والحيوية. ومع ذلك فقد استطاع عماد
الدين أن يضع الأسس لقاعدة انطلاق جهادية كبيرة وقوية تمتد من شمال الشام
إلى شمال العراق، كما كسر شوكة الصليبيين في مواقع كثيرة، ويسر سبل الجهاد
والعمل الجاد لتحرير الأرض، وقدم نموذجاً للحاكم والمجاهد تحت راية
الإسلام، وقوى الأمل باسترجاع المقدسات. غير أن أفضل أثر تركه -على ما
يظهر لنا- هو ابنه نور الدين محمود.
جهاد نور الدين محمود 541هـ-569هـ
بعد استشهاد زنكي، وحسب الأعراف
الوراثية في ذلك الزمان، انقسمت دولته بين ابنيه: نور الدين محمود الذي
تولى حلب وما يتبعها وسيف الدين غازي الذي تولى الموصل وما يتبعها.
ولد نور الدين محمود -بعد حوالي
عشرين عاماً من سقوط القدس في أيدي الصليبيين- في 17 شوال 511هـ -فبراير
1118م، وكان أسمر طويل القامة، حسن الصورة، ذا لحية خفيفة، وعليه هيبة
ووقار. تزوج سنة 541هـ من ابنة معين الدين أنز ورزق ببنت وولدين، وتوفي
رحمه الله في 11 شوال 569هـ-15 مايو 1174م(44).
وبحكم نور الدين انفتحت صفحة جديدة
رائعة من صفحات الجهاد الإسلامي في بلاد الشام، وطوال 28 عاماً من حكم نور
الدين كان واضحاً في ذهنه هدفه الأساسي في تحرير واسترداد بلاد المسلمين،
وتوحيدها تحت راية الإسلام.
ومنذ تلك اللحظة أخذ يبذل الأسباب
ويعد العدة والعتاد ويوحد جهود المسلمين ويرتقي بهم في جوانب الحياة
المختلفة وذلك وفق تصور إسلامي متكامل لإعادة أمجاد المسلمين وطرد
الاحتلال الصليبي من بلادهم...
ودخل المعركة وفق فهم إسلامي شامل سليم يؤكد على عقائدية المعركة مع الصليبيين فهي صراع بين حق وباطل وبين إسلام وكفر.
- وأن المعركة تعني كل المسلمين دون نظر إلى قوميات وعصبيات وجنسيات.
- وأنه لا سلام نهائي حتى يسترجع المسلمون كل شبر من أراضيهم.
- وأنه لا بد من الإعداد المتكامل للأمة -حتى تكون على مستوى الجهاد- إيمانياً وثقافياً وتربوياً واجتماعياً وجهادياً وعسكرياً.
- وأنه لا بد من توحيد الجهود تحت راية الإسلام في مواجهة العدو الصليبي.
معالم النهضة الإسلامية
وفي سبيل ذلك قام نور الدين محمود بإحياء نهضة إسلامية أكدت على تكامل الحل الإسلامي، وقد تم التعبير عنها من خلال:
1- القيادة الإسلامية الصادقة
وتمثلت في شخصه وأشخاص من حوله من
القادة والمسؤولين والعلماء. فقد كان للتكوين النفسي والشخصية المميزة
لنور الدين محمود أثرهما الكبير في وجود قيادة إسلامية واعية، جادة،
مجاهدة.
قال ابن الأثير: «طالعت تواريخ
الملوك المتقدمين قبل الإسلام، وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء
الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين»(45).
فلقد كان «ذكياً، ألمعياً، فطناً، لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه
الرجال»، ولم يتقدم لديه إلا ذوو الفضل، والقدرة على الإنجاز الأمين
المسؤول للعمل، ولم ينظر في تقديمه للرجال إلى المكانة الاجتماعية أو
للجنس والبلد(46).
كما عرف نور الدين بتقواه وورعه فقد
كان حريصاً على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار. فكان ينام بعد صلاة
العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن
الفجر. كما كان كثير الصيام(47).
وتميز بفقهه وعلمه الواسع فلقد تشبه
بالعلماء واقتدى بسيرة السلف الصالح، وكان عالماً بالمذهب الحنفي، وحصل
على الإجازة في رواية الأحاديث وألف كتاباً عن الجهاد(48).
وكان ذا طبيعة جادة، كما رزقه الله
قوة الشخصية فكان «مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته» ومجلسه «لا يذكر فيه إلا
العلم والدين والمشورة في الجهاد» «ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا
رضى صموتاً وقوراً»(49).
وكان زاهداً متواضعاً فقد «كان أدنى
الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز، ولا استئثار بالدنيا»،
وعندما شكت زوجته الضائقة المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص وقال «ليس
لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض
في نار جهنم لأجلك»(50).
قال له الشيخ الفقيه قطب الدين
النيسابوري يوماً «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام، فإن أصبت في
معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف». فقال له نور الدين «يا
قطب الدين!! ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك
الله الذي لا إله إلا هو»(51).
وعلى اتساع نفوذه وسلطانه جاءه
التشريف من الخلافة العباسية وتضمن قائمة بألقابه التي يذكر بها على منابر
بغداد تقول «اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد
العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه
قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضي الإمامة وأثيرها، فخر
الملة ومجدها شمس المعالي وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي
العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين»!!
فأوقف هذا كله واكتفى بدعاء واحد هو «اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن
زنكي»(52).
وعرف باتساع شعبيته وحب الناس له
حتى في البلاد التي لا يحكمها، وكان يستشعر إحساساً عظيماً بالمسؤولية
تجاه الزمن أن يضيع وتجاه الدم المسلم أن يراق والكرامة الإسلامية أن تهدر
والأرض الإسلامية أن تستباح فكان يصل في عمله الليل بالنهار. وكان لا يهمل
أمراً من أمور رعيته(53).
وحباه الله تكويناً عسكرياً فذاً حمل من خلاله تكاليف الجهاد الشاقة 28 عاماً بنفسية جهادية صادقة(54).
2- التزام أحكام الإسلام وتطبيقها
حرص على تطبيق أحكام الإسلام على
الجميع، وكان قدوة في الالتزام بها، وطبقها على مسؤولي الدولة وقادتها،
وكما حرص على رد الحقوق إلى أصحاب المظالم وكان يقول «حرام على كل من
صحبني أن لا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ»، وفي توحيده لبلاد
المسلمين كان يحرص على عدم إراقة دماء المسلمين ولذلك كان ذا صبر وحكمة
وتأن في ذلك، لقد كان رحمه الله يحفظ الشريعة المطهرة ويقف عند
أحكامها(55).
ورغم اضطراره للاصطدام بالعديد من
زعماء المدن والقلاع المسلمين في سعيه لتحقيق الوحدة أو لتحالفهم مع
الفرنج...، إلا أن دم المسلم كان عنده عظيماً، وكان «لا يقصد ولاية أحد من
المسلمين إلا لضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج أو للخوف عليها
منهم»(56). وعندما تحالف حكام دمشق مع الصليبيين سنة 544هـ جاهد الصليبيين
دون إيذاء المسلمين وضياعهم، وقال «لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضاً
وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين». لقد شاهد الدماشقة
حرمته حتى تمنوه، ودعوا الله أن يكون ملكهم(57).
وعندما رفع عليه أحدهم قضية إلى
القاضي، استدعاه القاضي فقال: السمع والطاعة «إنما كان قول المؤمنين إذا
دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا»، إني جئت ها
هنا امتثالاً لأمر الشرع». وفي مرة أخرى دعي للقضاء فاستجاب ولما ثبت أن
الحق مع نور الدين وهب لخصمه ما ادعاه عليه(58).
لقد ألغى رحمه الله الضرائب التي
تزيد عن الحد الشرعي رغم ما كانت تدر من دخل كبير على ميزانية الدولة ورغم
ما يمكن تبرير وجودها -عند البعض- بظروف البلاد والحرب(59). وكان يقول
«نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق... أفلا نحفظ الدين ونمنع ما
يناقضه»(60). وكان أشهى شئ عنده كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة
يتبعها(161).
3- البناء الإيماني والتربوي والثقافي
وفي هذا المجال استقدم العلماء
العاملين وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد
وأوقف عليها الأوقاف، وحارب البدع والأضاليل... فانتشر نور الإيمان والعلم
بين الرعية. وأحيا سمت احترام العلماء وتوقيرهم فرغم أن الأمراء والقادة
لم يكونوا يجرؤون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه... فإنه كان إذا دخل
العالم الفقيه أو الرجل الصالح قام هو إليه وأجلسه وأقبل عليه مظهراً كل
احترام وتوقير(62). وكان يقول عن العلماء إنهم «هم جند الله وبدعائهم
نُنصَر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم فإن رضوا منا
ببعض حقهم فلهم المنة علينا»(63). لقد كانت بلاد الشام خالية من العلم
وأهله، وفي زمانه صارت مقراً للعلماء والفقهاء والصوفية(64). وكان يسمع
نصيحة العلماء ويجلها ويقول «إن البلخي إذا قال لي: محمود، قامت كل شعرة
في جسدي هيبة له ويرقُّ قلبي»(65).
4- الإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي:
عرف نور الدين بشخصيته التي تهتم
بأحوال المسلمين وتحيي معاني التكافل والتعاون والتضامن بينهم وترفع عنهم
معاناتهم وأحوالهم الصعبة... فلقد عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل
وإغناء الفقراء وبناء المستشفيات والملاجئ ودور الأيتام والأسواق
والحمامات والطرق العامة، وتوطين البدو وإقطاعهم الأراضي حتى لا يؤذوا
الحجاج. لقد ارتقى بالخدمات التي تقدم للمسلمين فأحبه الشعب وأصبحت صلته
بالشعب متينة قوية...، وسرت هذه النفسية البناءة المحبة للخير إلى نفوس
رجاله فأصبحوا يتسابقون في خدمة الناس وبناء المدارس والمستشفيات
والملاجيء ووسائل الخدمات المختلفة(66).