" الحلقة الأولى "
شَوّالٍ 5هـ - فبراير 627 م
"أحجار على رقعة الشطرنج"
بعد معركة بني النضير [ 4 هـ ] – التي أجلى فيها المسلمون يهود النضير إلى خارج المدينة، بعدما خانوا، وعزموا على اغتيال النبي – صلى الله عليه وسلم -– تحرك وفد يهودي يجوب الجزيرة العربية لتجهيز أكبر جيش عربي لإستئصال الإسلام والمسلمين وقتل الرسول واحتلال المدينة ونهب خيراتها.
ونجح اليهود في إعداد هذا التحالف العربي الذي دخلت فيه أهم قبائل العرب ..
وقد كان على رأس هذا الوفد اليهودي نخبة من من زعماء اليهود مِن مَن يحقدون على المسلمين حتى النخاغ، وكان منهم :
1-سَلامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ
2-حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ النّضْرِيّ
3- َكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ
4- هَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ
5- َأَبُو عَمّارٍ الْوَائِلِيّ.
6-وَسَلام بْن مِشْكَمٍ [ ابن القيم: زاد المعاد - 3 / 240]
وانضمت إلى هذا التحالف اليهودي والوثني أهم قبائل العرب : قريش وغطفان، و فزارة ومرة، وأشجع واتجهت جيوش الأحزاب نحو المدينة ..
وهكذا كان اليهود وراء تحالف الأحزاب، فجابوا وساحوا في الجزيرة، وانصاعت لنفثهم القبائل، فكانت قبائل العرب أحجارًا على رقعة الشطرنج اليهودية .
اليهود يدعمون العقائد الوثنية:
وتروي كتب السير، قصةَ خروج اليهود إلى مكة لدعوة قريش إلى حرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهي عجيبة من عجائب الدهر؛ أن يتصلعك أهل كتاب عند أهل وثن، وأن يتحبب أتباع دين سماوي إلى أصحاب دين وثني، وأن يستعين اليهود بالوثنية لضرب الإسلام .
ولقد وجد صناديد مكة الفرصة سانحة بهذه الزيارة اليهودية؛ أن يضفوا الشرعية على عبادة الأصنام، وأن يحصلوا على شهادة من علماء بني إسرائيل على سلامة الدين الوثني، وأحقية اللات والعزى ومناة وقطعان الأصنام بالعبادة .
فقالت قريش :
" يَا مَعْشَرَ يَهُودَ إنّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأول، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ ؟ " .
فقال زعماء اليهود وعلماء بني إسرئيل :
" بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ..!! " [ ابن هشام 2 / 214] .
وهكذا سجل التاريخة هذه المَعرة اليهودية، وصور هذه العورة الإسرائيلية، في هذا المشهد المخزي من أناس – يدَّعون انتسابهم لموسى - خانوا الشرائع السماوية، ودلسوا الأمانة العلمية، وشهدوا زورًا وكذبًا بصحة دين الأصنام وأحقيته على دين خير الأنام.
وهم الذين قال الله فيهم، مسجِلاً هذه المساندة اليهودية لدين الأوثان :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا : هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا }[النساء:51] ..
إنه العار الذي لحق بالأمة اليهودية صاحبة الكتاب السماوي، لـمَّا تحالفت مع الوثنية ضد التوحيد، ومع الأعداء ضد أبناء الوطن .
الزحف نحو المدينة :
وخرجت جيوش التحالف وقد أجمعت أمرها على إفناء المسلمين، وتألفت هذه الجيوش على النحو التالي :
1-جيش قريش، تحت قيادة أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: ( 4000 جندي ) .
2-جيش غَطَفَانُ ، بقيادة عُيَيْنَة بْنُ حِصْنِ ، وفِيهم بَنِي فَزَارَةَ
3- جيش بَنِي مُرّةَ، ، بقيادة الْحَارِث بْنُ عَوْفِ ( 400 جندي)، وهي من بني غطفان.
4 - جيش أَشْجَعَ ، بقيادة َمِسْعَر بْنُ رُخَيْلَةَ ( 400 جندي).
5- جيش بني أسد، بقيادة طليحة بن خويلد ( 4500 جندي )
6- جيش بني سليم، بقيادة سفيان بن عبد شمس ( 700 جندي)، وقد التحقوا بجيش التحالف في ( مُرَّ الظهران)[انظر: ابن هشام 2 / 215] ..
ومن ثم تجاوز عددهم العشرة آلاف ، وكانت القيادة العامة لأبي سفيان .
إن هذا التجمع الوثني الكبير – في هذا الوقت – يشي بمدى الجهد الكبير الذي بذله اليهود، علاوة على تلك الأطماع التي ظهرت وسال لعاب أصحابها، فالمدينة بالنسبة لأعراب الجزيرة صيد ثمين وغنيمة ضخمة، كما أن إفناء المسلمين هدف أسمى بالنسبة للوثنين واليهود على حد سواء .
أهمية الشورى والأفكار المستحدثة في الحرب:
ورُفعت إلى حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم - التقريرات الاستخباراتية، التي تفيد بتحرك جيوش التحالف صوب المدينة، فاسْتَشَارَ الصّحَابَةَ، ما العمل ؟ وهو النبي المصطفى الذي يتنزل الوحي عليه من السماء .. فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وهي حيلة دفاعية يستخدمها الفرس، والحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها .
إن درس الشورى يأبى الغياب بين فصل وآخر من فصول سيرة الرسول ..
إن الشورى ثمرة نضيجة من ثمرات الدعوة الإسلامية، نراها – أي الشورى – ماثلة حية في أحداث السيرة في ظلال النبوة وتحت قبة الوحي وبين يدي الرسول الصادق المصدوق، لتتوكد فريضة الشورى- تلك الفريضة الغائبة المجهولة – في نفوس المسلمين والمتمسلمين، حكامًا ومحكومين، ولنعرف أن جو الاستبداد ضَيَّقٌ لا يتسع، وهَمٌ لا ينفرج، والجور والعسف لا يصنع عقولاً إنما يصنع أقفية.
تكريم العقول المبُتكِرة
وطفق الناس يهتفون بسلمان، افتخارنًا به، وسرورًا بفكرته، فقال المهاجرون : سَلْمَانُ مِنّا ؛ وَقَالَتْ الأنْصَارُ : سَلْمَانُ مِنّا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ [ابن هشام 2 / 224] .
وهو الرد المعهود من القيادة الإسلامية التي شرعت في تكريم أصحاب الإبتكارات وأصحاب الإختراعات .
لقد نال سلمان هذه المرتبة الشرفية، واستحق هذا الوسام النبوي الرفيع؛ لأنه أعمل عقله في خدمة الإسلام، واخترع وابتكر، وأبدع ما ينفع المسلمين، وفكر، وفكر، وفكر، ولم ينخذل ولم يتضعضع، فكان من زمرة آل البيت الأماجد .
وانظر .. كيف تهيج العقول وتستوي على سوقها، فتَنتج وتبدع في جو الشورى، وبيئةِ الحوار بين الراعي والرعية، وتُربةِ التفاهم بين القائد وجنده !
هذه هي سمة البيئة الشورية في المجتمعات؛ بيئة جاذبة للعقول، تحتضن أصحاب المواهب والأفكار . وليست بيئة طاردة للعقول قاتلة للفهوم .
أيها المسؤول .. ابدأ بنفسك !
فلما أصدر النبي – صلى الله عليه وسلم - قراره بضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، عَمِلَ فِيهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بنفسه – مشاركةً، و تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الأجر، وتحميسًا لهم ، وتواضعًا منه – صلى الله عليه وسلم – فلا يليق بالقائد المسلم أن يجلس في رغد ولهو على الفراش اللين الدافىء من خلف جنوده الذين يتضاغون جوعًا ويرتعدون من البرد شمال المدينة حيث أعمال الحفر ..
وفي ذلك، الدرسَ الأوفى؛ لأصحاب المسؤوليات في العمل الجماعي الدعوي؛ أن يتقوا الله في أنفسهم وإخوانهم والدعوة، فتجد أحدهم يلقي على إخوانه التكاليف الثقال؛ وليس له من الأمر إلا القعود وقيل وقال. أو تراه يتكلف ويتعمَّل، ويتصنع المشاركة ثم ينستل من بينهم، تاركًا الجَمل بما حمل، ولا حياء ولا خفر، وبعد العمل تراه قد خرج من جحره؛ ليلقي نظرياته في العمل الجماعي وينَّظر تنظير العلماء، ويعَّقب تعقيب الحكماء، عما كان وعما ينبغي، وهو الخطيب المِثْقع والمتحدث المِفْلق، لكن .... دون مشاركة جادة ومعاونة فاعلة.
فقه الاستئذان
وَعَمِلَ الأبطال في أعمال حفر الخندق؛ فَدَأَبَ فِيهِ القائد وَدَأَبُوا . وَأَبْطَأَ عن المجاهدين فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُوَرّونَ بِالضّعِيفِ مِنْ الْعَمَلِ، وَيَتَسَلّلُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ – هربًا من أعمال الحفر - بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ولاإذْنٍ . وَجَعَلَ الرّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا نَابَتْهُ النّائِبَةُ مِنْ الْحَاجَةِ الّتِي لا بُدّ لَهُ مِنْهَا ، يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللّحُوقِ بِحَاجَتِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ – في رحمة وعفو - فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَاحْتِسَابًا لَهُ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ : { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[انظر : ابن هشام 2 / 215، 216].
وفي هذا دلالة على أهمية الاستئذان إذا ما أراد الجندي الإنصراف عن العمل الجماعي لضرورة أو لحاجة .. فلا يجوز له – شرعًا ولاخُلقًا ولا عُرفًا– أن يتحول عن العمل الجماعي إلى العمل الفردي – أي من المصلحة العامة إلى المصلحة الخاصة – إلا بموافقة صريحة من القائد .
وفي ذلك المشهد درسٌ لهؤلاء الهذليين والكُسالى الذين يتخلفون عن المصلحة العامة لحساب مصلحتهم الشخصية، ويقدمون مستحب الفرد على واجب الأُمة، ويُبطئون عن إخوانهم بغير عذر ولا إذن، ويُوَرّون بالعمل المتصنع الضعيف الشكلي، ويتسللون إلى بيوتهم ومصالحهم الشخصية تسلل الثعالب، هربًا من الأعمال، وتهربًا من الأعباء، وفرارًا من المصلحة العامة – تالله إن هؤلاء متبرٌ ما هم فيه، وفاسدٌ ما هم عليه، وهم أحوج إلى التوبة والأوبة من العبد الآبق.
ولهؤلاء نقول: إن الله تعالى لم يذرأكم في هذه الأرض عَبَثاً، ولم يترككم فيها سُدًى، ولا يريد منكم من رزق فتَقْسمون، ولا قصور فتفخرون، ولا مراكب فتمرحون، وما بَينْ أحدكم وبيني الجَنَة والنار إلا الموتُ يأتيه اللحظة، أو بعد لحظة؛ وإنَّ طموحاتًا تَنْقُصها اللحظةُ، ومشاريعًا دنيوية تَهْدِمها اللحظة، لجديرة بقِصَر العمر، وهوان الدنيا.. فيالها حَسْرَةً على كلّ ذي غَفلة ! ويا لها عَبرة على كل ذي غَمرة !
أهمية الأدب الحماسي
عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال :
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَادِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ والأنصار" [البخاري، برقم:(3789)].
وعن أنس قال :
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ : "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ.. فَاغْفِرْ للأنصار وَالْمُهَاجِرَهْ"
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ : نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا.. عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
فكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ [ البخاري : برقم (3795)]
وكان من بين المجاهدين رجلاً من الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ جُعَيْلٌ .. فسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرًا ..
فطفق الصحابة يرددون مرارًا :
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرَا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرَا
فَإِذَا مَرّوا " بِعَمْرٍو " قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: " عَمْرًا !"
وَإِذَا مَرّوا " بِظَهْرٍ " قَالَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- : " ظَهْرًا " [ابن هشام 2 / 217]
وعن الْبَرَاءَ قَالَ :
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الأحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَلَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وَهُوَ يَقُولُ :
وَاللَّهِ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
[إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا]
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ أَبَيْنَا أَبَيْنَا . [ البخاري :(3795)، ومسلم : (3365 )]
إذا أردتَ أن تهدم شَعبًا فسلط عليه الأدب الرقيع، والشعر الرخيص، وقصص الجنس، ورويات العهر، وقصائد الخمر، فالأدب الخليع لا يقل ضرواة في الهدم من الصواريخ !
وإذا أردنا أن نؤسس جيشًا، ونبني أُمةً ، - وقد قال الله تعالى : " وأعدوا " – فإن من تمام الإعدادِ تربيةَ الجنود على الأدب الإسلامي الجهادي، والشعر العربي الحماسي، وأناشيد الشجاعة، ومقالات الإباء، وقصص البطولة .. و"حرض المؤمنين "! .
وفي هذه الغزوة، وقد بدأ الحصار، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتتطايرت الظنون والشكوك ، وساحت الأضاليل والأباطيل – نرى القائد العظيم والرئيس الحكيم يثَّبت جنده ويربط على قلوبهم ويشد على أيديهم مستخدمًا في ذلك القصيدة الحماسية والطرفة الظريفة، والترنيمة اللطيفة .
ومثل هذا أيضًا، يدلل على قدرة القائد في الجمع بين الجد والترويح عن النفس، لاسيما في كربة الحرب وشدة الضنك..
هذا ، وإنشاد الأناشيد والأشعار الجهادية في ثنايا المحن دائمًا تحقق عدة فوائد ، أهمها :
(1) الترويح عن الجنود ..
(2) إلهاب مشاعر المسلمين بشكل إيجابي نحو العقيدة والوطن
(3) تقوية الصلة بين الجنود وقاداتهم، فضلاً عن الجنود وبعضهم .
الالتفاف حول شعار جهادي
فلقد كَانَ شِعَارُ الجيش الإسلامي يَوْمَ الْخَنْدَقِ :
" حم ، لا يُنْصَرُون"[ ابن هشام 2 / 226 ]
إن الشعار الإسلامي أو الهتاف الحماسي رغم رمزيته إلا أن له أهمية في تنظيم الجيش وحشد الجنود وبثِّهم .
ولعمري إن صيحة الشعار تهز القلوب وتنشط بها الجوارح، وتدمع بها العيون، وبها يتحرك الجنود نحوها أو انطلاقًا منها .
وينبغي أن يتسم الشعار بالقوة ووضوح الهدف.
إن شعارات العمل الإسلامي مهمة، تحتاج دومًا إلى تجديد وتفعيل وهمة. وشرح مغذاها للناس، وتبيين علاقتها بأهداف العمل، وتأكيد أخلاقيتها فلا سَبَ فيها ولا شتم .
الصبر على الجوع
الصبر على قلة الزاد، من الآداب الهامة التي ينبغي أن يتربى عليها جند الله، ليكون الصبر وقودًا لهم في ساح القتال، تلك الساعات التي يكابد فيها الجند الحر والعطش، والجوع والشظف..
ولقد ضرب الصحابة أروع المثل في الصبر على قلة الزاد، " فكانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ !!" [البخاري : (3791)]
قال جابر- مشيرًا إلى أيام الخندق - :" وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا"[البخاري : (3792)].
وقال واصفًا حال قائدهم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمَصًا شَدِيدًا"[البخاري : (3793)]
ولقد بلغ منه – صلى الله عليه وسلم – الجوع مبلغًا عظيمًا، يوم الخندق، حتى ربط على بطنه ليقاوم الجوع، قال أبو طلحة: "شكونا إلى رسول الله– صلى الله عليه وسلم – الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله– صلى الله عليه وسلم – عن حجرين" [ الترمذي : (2371)]!
البطن مَهلكة المسرفين، ومدرسة المُقلِّين.
فلا تكن – حبيبي – أسيرُ الجُوع، صرَيع الشِّبع .
فربمًا صوم يوم أعانك على جوع يوم، فالجوع رغبة منك، دربةً على الجوع رغمًا عنك .
ورب دولة صائمة وقاها الله لباس الجوع، فأحرى بشعب قضيته الكبرى الأكل والشرب أن يتوب وأن يصوم .
وليس تاريخ محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا تاريخ شدائد ومِحَن، ومجاهدة في هداية البشر، ومراغَمَة لكيان الفساد . فهو يجاهد رغم جوعه، ويعمل رغم جوعة، ويدعو رغم جوعه .
****
هكذا كانت الحلقة الأولى في غزوة الأحزاب ..
1-أبانت تلك الحلقة كيف يخطط اليهود للإيقاع بالأمة الإسلامية، وحقيق أنهم أشد الناس عداوة للمسلمين، وشعارهم دومًا " ليس علينا في الأميين سبيل "، فهم يسعون دومًا أن يجعلوا من الكرة الأرضية رقعة شطرنج هم محركي أحجارها، ولو بالتحالف مع عبَّاد الأوثان . فأوصيك – أخي – ببغض اليهود .
2- وأنت قد رأيت – أخي القارىء – كيف كانت البيئة الإبداعية التي كان الصحابة يحبرون فيها في ظلال دولة الشورى، وكيف كان الإبداع متساوقًا مع الحرية، وكيف كان النظام الإسلامي يدعم أصحاب المواهب ويشجع المبتكرين . فأوصيك – أخي – بصناعة البيئة الشورية الإبداعية في بنيان العمل الجماعي . لتقر الأعين بعباقرة ونوابغ في خدمة الإسلام .
3- وعلمتَ، كيف أن القائم على ثغر من ثغور الإسلام؛ لا ينام عن إخوانه، ولا يتهرب من مهامه، ولا يَكتنُّ في كِسر بيته وإخوانه يكابدون قيظ الحَرِ. وما أقبح التخلف والإهمال في أبناء الصحوة الإسلامية ! أحَسِبَ هؤلاء أنهم كعامة الناس ؟ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود! فعليك – أخي – بغرس قيمة المشاركة وقيمة الإستئذان.
4- وعلمتَ أهمية فنون الأدب في معركتنا مع العدو، فكم من قصيدة أحيت الجهاد في قلوب موات، وكم من أنشودة ناح بها المجاهدين حتى بلغوا بها المعالي، فعليك بأشعار الشجاعة عند المتنبي، وديوان الحماسة لأبي تمام، وقصائد الزهد لأبي العتاهية وغيرها من الأدب القديم، إضافة إلى الكتابات الأدبية الجهادية ما مضى منها وما استجد.
5- وعلمتَ كيف كان حال الصحابة من شظف وجوع، فالاخشوشان سمة من سمات المجاهدين، والمترفون لا يقيمون حضارة، ولا تقوى أياديهم الناعمة على حمل السلاح ، فهيا، هيا .. نغرس التربية الجهادية في نفوسنا وفي نفوس ذوينا .
نقلا عن موقع رسالة الإسلام