الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فبمناسبة شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، وحيث إن إنزال القرآن ، إنما
هو ؛ لتدبره والتفكر في آياته ، والعمل به .قال الله تعالى : " كتاب
أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته " وقال تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "
وقال تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " .
فإني أقدم بين أيديكم موضوعات أدعو بها نفسي وإخواني وأخواتي بشدة إلى
التفكر والتدبر لكتاب ربنا عز وجل ؛ فإن الإنسان لو جاءته رسالة من حبيب
غالٍ عنده ، لأخذ ينظر فيها وفي كل كلمة ويتأملها ، ولم يمل من ذلك !
والقرآن العظيم قد جاءنا من أعظم محبوب ولا أحد أحب منه ، فلنجعل في هذا
الشهر الكريم وقتا لتدبر كتاب ربنا . وسأنقل في هذه السلسلة إن شاء الله
من كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة ما يشفي ويعين
على التدبر والتفكر بإذن الله .
فنبدأ وبالله التوفيق :
( 1 ) مقدمة في أهمية التفكر والتدبر لا يستغني عنها من أراد ذلك
ثبت عن بعض السلف أنه قال : تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة .
وسأل رجل أم الدرداء بعد موت أبي الدرداء رضي الله عنه عن عبادته . فقالت :كان نهاره أجمعه في بادية التفكر .
وقال الحسن : تفكر ساعة خير من قيام ليلة . وقال الفضل : التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك .
وقيل لإبراهيم : إنك تطيل الفكرة . فقال : الفكرة مخ العقل . وكان سفيان كثيرا ما يتمثل :
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
وقال الحسن في قوله تعالى : " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير
الحق " . قال : أمنعهم التفكر فيها . وقال بعض العارفين لو طالعتْ قلوبُ
المتقين بفكرها إلى ما قُدِّر في حُجُبِ الغيب من خير الآخرة ، لم يَصْفُ
لهم في الدنيا عيش ، ولم تَقَرَّ لهم فيها عين .
وقال الحسن : طول الوحدة أتم للفكرة ، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة .
وقال وهب : ما طالت فكرةُ أحد قط إلا عَلِم ، وما علم امرؤ قَطُّ إلا عَمِل .
وقال عمر بن عبدالعزيز : الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة .
وقال عبد الله بن المبارك لبعض أصحابه وقد رآه مفكرا : أين بلغت ؟ قال : الصراط .
وقال بِشْر الحافي : لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب .
وقال أبو سليمان : الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة ، وعقوبة لأهل الوَلاية . والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتجلي القلوب .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : التفكر في الخير يدعو إلى العمل به .
وقال الحسن : إن أهل العلم ، لم يزالوا يعودون بالذِّكر على الفِكْر ، والفكر على الذكر ، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة .
ومن كلام الشافعي : استعينوا على الكلام بالصمت . وعلى الاستنباط بالفكرة .
وهذا لأن الفكرة عمل القلب ، والعبادة عمل الجوارح ، والقلب أشرف من
الجوارح . فكان عمله أشرف من عمل الجوارح . وأيضا : فالتفكر يوقع صاحبه من
الإيمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد ، فإن التفكر يوجب له من انكشاف
حقائق الأمور ، وظهورها له، وتميز مراتبها في الخير والشر ، ومعرفة
مفضولها من فاضلها ، وأقبحها من قبيحها ، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها ،
وما يقاوم تلك الأسباب ، ويدفع موجبها ، والتمييز بين ما ينبغي السعي في
تحصيله ، وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه ، والفرق بين الوهم والخيال
المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها ، وبين السبب المانع
حقيقة فيُشْتَغَل به دون الأول .
فما قَطَعَ العبدَ عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطعٌ أعظم من
الوهم الغالب على النفس والخيال ، الذي هو مركبها . بل بحرها الذي لا تنفك
سابحة فيه .
وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة ، وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة .
وكذلك إذا فكر في عواقب الأمور ، وتجاوز فكرُه مباديَها وَضَعَها مواضِعَها ، وعلم مراتبها .
فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة ، فتجاوز فكرُه لَذَّتَه ، وفَرَحَ
النفسِ به إلى سوءِ عاقبتِه ، وما يترتب عليه من الألم ، والحزن الذي لا
يُقاوِمُ تلك اللذةَ ، والفرحةَ ، ومن فكَّر في ذلك ، فإنه لا يكاد
يُقْدِم عليه .
وكذلك إذا ورد على قلبه وارِدُ الرَّاحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة
الطاعات وتعبها ، حتى عَبَرَ بفكرِه إلى ما يترتب عليها من اللذات ،
والخيرات ، والأفراح التي تغمر تلك الآلام ، التي في مباديها بالنسبة إلى
كمال عواقبها .
وكلما غاص فكره في ذلك ، اشتد طلبه لها ، وسهل عليه معاناتها ، واستقبلها بنشاط وقوة وعزيمة .
وكذلك إذا فكَّر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر إلى
غاية ذلك بعين فكره ، استحى من عقله ونفسه ، أن يكون عبدا لذلك ، كما قيل :
لو فكر العاشقُ في منتهى ... حُسْنِ الذي يسبيهِ لم يسبهِ
وكذلك إذا فكر في آخر الأطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس أشباه
الأنعام ، وما يصير أمرها إليه عند خروجها ، ارتفعت همته عن صرفها إلى
الاعتناء بها ، وجعلها معبودَ قلبِه ، الذي إليه يتوجَّهُ ، وله يرضى
ويغضب ، ويسعى ويكدح ، ويوالي ويعادي . كما جاء في المسند عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، أنه قال : " إن الله جعل طعام ابن آدم مثل الدنيا ، وإن
قَزَّحَه ومَلَّحَه ، فإنه يعلم إلى ما يصير ، أو كما قال صلى الله عليه
وسلم .
فإذا وقع فكره على عاقبة ذلك وآخر أمره ، وكانت نفسُه حُرَّةً أَبِيَّةً
ربأ بها ( نزَّهها ) أن يجعلها عبدا ، لما آخره أنتنُ شيءٍ ، وأخبثه ،
وأفحشه .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .