أولاً كل عام و أنتم بخير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
ككل عام فإننا نستقبل رمضان بسؤال يسأله كثير من الناس: هل يجوز اعتماد
الحساب الفلكي في تعيين الهلال، وهل إذا رأى أهل بلد الهلال يلزم حكمه كل
البلاد؛ فإذا رأى أهل بلد هلال رمضان وجب على كل المسلمين الصيام، وإذا
رأى أهل بلد هلال شوال وجب على كل المسلمين العيد؟
سنحاول فيما يلي الإجابة عن هذا السؤال وفق الأدلة الشرعية الواردة في المسألة:
1. اعتماد الحساب الفلكي
لا يجوز اعتماد الحساب الفلكي في تحديد أو تعيين بدء الصوم أو الفطر، ويجب اعتماد الرؤية العينية في ذلك. والدليل على هذا:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري
ومسلم، وفي لفظ: (صوموا لرؤيته فإن غمي عليكم فعدوا ثلاثين) رواه أحمد،
وفي لفظ: (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فإن غم عليكم
فعدوا ثلاثين يوما) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي، وفي لفظ: (صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا) رواه أحمد
والترمذي، وفي لفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: (لا
تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له)
رواه البخاري.
فهذه الأحاديث تدل على تعليق الصوم والفطر على رؤية هلال رمضان وشوال رؤية
عينية، ومما يقطع بهذا الفهم وينفي اعتماد الحساب الفلكي أن النبي صلى
الله عليه وسلم نص على استبعاد الحساب. فعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: (إِنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسِب الشهر هكذا
وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
2. ثبوت الرؤية بشهادة عدل واحد
اختلف أهل العلم في ثبوت الرؤية بشهادة عدل واحد أو بشهادة عدلين اثنين.
قال ابن رشد الحفيد (في بداية المجتهد ونهاية المقتصد): "فإنهم اختلفوا في
عدد المخبرين الذين يجب قبول خبرهم عن الرؤية وفي صفتهم؛ فأما مالك فقال:
إنه لا يجوز أن يصام ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين عدلين. وقال الشافعي في
رواية المزني: إنه يصام بشهادة رجل واحد على الرؤية، ولا يفطر بأقل من
شهادة رجلين. وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة قبل واحد، وإن كانت
صاحية بمصر كبير لم تقبل إلا شهادة الجم الغفير. وروي عنه أنه تقبل شهادة
عدلين إذا كانت السماء مصحية، وقد روي عن مالك أنه لا تقبل شهادة الشاهدين
إلا إذا كانت السماء مغيمة، وأجمعوا على أنه لا يقبل في الفطر إلا اثنان
إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين الصوم والفطر كما فرق الشافعي. وسبب
اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من
باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد".
والراجح في المسألة الاكتفاء في ثبوت هلال رمضان أو شوال بشهادة عدل واحد لصحة الأدلة الواردة في الباب.
عن ابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم
أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود والدارمي وابن حبان
والحاكم والدارقطني والطبراني. فهذا الحديث لم يختلف في صحته لذا يصلح
للاستدلال ورفع النزاع في المسألة.
3. توحيد الصيام والفطر
قال ابن رشد الحفيد (في بداية المجتهد ونهاية المقتصد): "وإذا قلنا إن
الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد ؟ أعني
هل يجب على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر أم لكل
بلد رؤية؟ فيه خلاف، فأما مالك فإن ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنه إذا
ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي
أفطروه وصامه غيرهم وبه قال الشافعي وأحمد وروى المدنيون عن مالك أن
الرؤية لا تلزم بالخبر عند أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية إلا أن يكون
الإمام يحمل الناس على ذلك وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك
وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز. والسبب في
هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر. أما النظر فهو أن البلاد إذا لم تختلف
مطالعها كل الاختلاف فيجب أن يحمل بعضها على بعض لأنها في قياس الأفق
الواحد. وأما إذا اختلفت اختلافا كثيرا فليس يجب أن يحمل بعضها على بعض.
وأما الأثر فما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحرث بعثته إلى معاوية
بالشام فقال : قدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام
فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله
بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيته ليلة الجمعة
فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال: لكنا
رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه فقلت: ألا
تكتفي برؤية معاوية ؟ فقال لا هكذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام فظاهر
هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد والنظر يعطي الفرق بين
البلاد النائية والقريبة وبخاصة ما كان نأيه في الطول والعرض كثيرا وإذا
بلغ الخبر مبلغ التواتر لم يحتج فيه إلى شهادة فهذه هي المسائل التي تتعلق
بزمان الوجوب".
وقال الشوكاني (في نيل الأوطار): "واعلم أن الحجة إنما هي في المرفوع من
رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إليه بقوله هكذا
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو قوله فلا نزال نصوم حتى نكمل
ثلاثين والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما أخرجه
الشيخان وغيرهما بلفظ : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه
فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة
الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين فالاستدلال به على لزوم
رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم
لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم ولو سلم توجه
الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر لكان
عدم اللزوم مقيدا بدليل العقل وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز
معه اختلاف المطالع وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي
يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد وليس بحجة ولو سلم عدم لزوم التقييد
بالعقل فلا يشك عالم أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض
وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها وسواء كان بين القطرين
من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل
ولو سلم صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص
إن كان النص معلوما أو على المفهوم منه إن لم يكن معلوما لوروده على خلاف
القياس ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بمعنى
لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه إنما جاءنا بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة
هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد ولم نفهم
منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك العموم فينبغي الاقتصار على
المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به فلا يجب على أهل
المدينة العمل برؤية أهل الشام دون غيرهم ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا
نعقلها ولو نسلم صحة الإلحاق وتخصيص العموم به فغايته أن يكون في المحلات
التي بينها من البعد ما بين المدينة والشام أو أكثر وأما في أقل من ذلك
فلا وهذا ظاهر فينبغي أن ينظر ما دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو
الناحية أو البلد في المنع من العمل بالرؤية والذي ينبغي اعتماده هو ما
ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم أو حكاه القرطبي
عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها ولا يلتفت إلى ما قاله
ابن عبد البر من أن هذا القول خلاف الإجماع قال لأنهم قد أجمعوا على أنه
لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والأندلس وذلك لأن الإجماع
لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة".
وهذا الذي قاله الشوكاني هو ما نقول به ونتبناه، فإذا ثبت الهلال في بلد
يعتمد الرؤية الشرعية فيجب على كل البلاد اعتماده سواء في الصيام أو
الفطر، خصوصا ونحن في زمن التقدم العلمي الذي أصبح فيه العالم كما يقولون
قرية صغيرة تتنقل فيه الأخبار بسرعة خارقة، فلا حجة إذن لمن يريد التفريق
بين الأمة في صيامها وفطرها وقد انتفى المانع أي البعد بين البلدان
والأقطار.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى زاوية أخرى من زوايا النظر في المسألة، ألا
وهي زاوية الوحدة بين الأمة الإسلامية. ذلك أن الصيام والعيد مثلما يمثلان
عبادة يمثلان أيضا مظهرا من مظاهر الوحدة بين الأمة الإسلامية؛ بين شرقها
وغربها، وبين أسودها وأبيضها، فلما لا نحرص إذن على التوحد ولو لفترة
زمنية قصيرة ؟ إننا لندعو الأمة من موقعنا هذا إلى الحرص على تحقيق مظهر
الوحدة من خلال الحرص على توحيد الصيام والعيد. والله نسأل أن يبارك لنا
في صومنا وعيدنا، وأن يجعل توحدنا في رمضان القادم خطوة أولى نحو توحدنا
في كيان سياسي واحد ودولة واحدة ترعى شؤوننا بالكتاب والسنة.