رمضان والتلفاز.. محاولة للفهم
يتعمق حضور وسائل الإعلام في تفاصيل حياتنا كما ونوعا مع قدوم شهر رمضان، وهو ما يتضاعف مع توالي شهر الصوم عاما بعد عام؛ والسبب في جزء منه يعود لطبيعة حضور وسائل الإعلام في حياتنا عامة، أما في جزء أكبر منه فيعود لطبيعة الشهر الفضيل ومركزيته في حياة المسلم، وهو ما يجعل منه فرصة مثالية لعمل هذه الوسائل واندفاعها في تسويق وتقديم منتجاتها الإعلامية.
وهو حضور نراه في رمضان الحالي متجاوزا لمفهوم "التكالب" الذي تحدث البعض عنه في رمضان الماضي، حيث وصل حد التوحش الحقيقي، والذي يمكن أن يلحظه المواطن العادي المستهدف دائما وأبدا، وهو المهاجم في كل أماكن تواجده، والمرصود في فضائه العام، والمستباح في كل خصوصياته.
كرنفال الإعلانات
كثر يستغربون ذلك، ويطرحون أسئلة عن واقع السوق الإعلامي والإعلاني الذي لا يتضاعف في رمضان بالمفهوم التقليدي، بل يصبح كرنفالا وموسما أساسيا لا غنى عنه، حيث تنتج مسلسلات وأعمال فنية لا تزيد عن حاجة السوق وقدرات المشاهد الاستيعابية، بل تصل لدرجة يمكن وصفها بأنها فيض حقيقي أصبح يشعر المشاهدون بالعجز عن مجاراته والحيرة أمام السيل الذي يعرض وينهمر عليه.
وكأن رمضان أصبح شهرا للإنتاج الدرامي والفني والديني (والجمع بين الثالوث السابق مقصود طبعا)، وطالما هو كذلك بفعل أساطين الإنتاج التلفزيوني فكان يجب أن يصبح شهرا للاستهلاك الدرامي والفني والديني بشتى صنوفه ومكوناته.. ولذلك يستهدف المشاهدون ويحضرون على نار هادئة تارة ونار مشتعلة ومتقدة تارة أخرى.. ليصل المشاهد شهر رمضان وقد أصبح مهلهلا لكثرة القصف الإعلاني الذي يتعرض له ومن كم المفاجآت التي وعد بها.
شهر مشاهدة
لنأخذ مثلا الأعمال الدرامية التي أصبحت بمثابة قدر محتوم تماما مثلما رمضان الفضيل، فهي مثلا حولت رمضان بالنسبة لقطاع عريض من الجماهير إلى شهر للمشاهدة، مشاهدة يختلط فيها الديني بالمادي، والأخير بالترفيه، والترفيه بالإيماني في حالة من التداخل والتناقض والازدواجية.
الحديث عن الدراما هنا يجعلنا نستحضر حقيقة أن هناك قناعة مؤكدة لدى كثيرين مفادها أن لا صيام دون دراما والعكس صحيح، وهي قناعة قديمة بطبيعة الحال، ومنبعها القائمون على سوق الدراما ذاتها، وذلك الحجم الضخم من الإعلانات التي تحاصر المواطنين وتتضمن ذات القناعة التي زرعت ونمت وترعرعت وأصبحت بمثابة أسطورة يصعب اختراقها أو النيل منها.
فالدراما في رمضان الماثل أمامنا أصبحت أكثر حضورا، والمنافسة بين الأعمال المعروضة أصبحت كبيرة لدرجة أنها تلغي بعضها الآخر، وهو زخم لا يقول للمشاهدين أن لا جلوس أمام التلفاز لمتابعة الأخبار والتقارير عن مختلف دول العالم، بل الجلوس أمام التلفاز لمشاهدة الدراما واستهلاك المزيد منها فقط.
قبل سنوات قليلة كان يُكتب وينتقد تضخم حضور الدراما والمسلسلات على القنوات العربية، وكان يقصد بذلك أنه يمكن للمشاهد أن يجد المسلسلات الدرامية الجديدة على مدار الساعة من خلال متابعته مجموعة من القنوات الفضائية، لكن في رمضان 2009 تخرج على المشاهدين قنوات كثيرة تقول لهم نقدم لك: "كل ساعة مسلسلا جديدا".
ماذا يعني ذلك؟ على ماذا تدلل تلك العبارة الاحتفائية والمبشرة لقطاع عريض من الجمهور؟ هل على المشاهد أن تدخله نصال الراحة عندما يسمع هذا الشعار أم ينتابه شعور القلق؟
يعني ذلك فيما يعنيه أن هذه القنوات تريد أسر المشاهدين أمامها، تكبلهم بالأعمال التي تقدمها بحيث لا يفعلون غير مشاهدتها والانصياع لما تقدم، يأتي ذلك في ظل شبه إجماع نقدي على أن هذه الدراما لا تقوم بأدوارها حتى، لا تعلم الناس ذوقا ولا نمط حياة حضاريا، لا ترفع من مستوى أدائنا ونظرتنا لأنفسنا، لا تعالج قضايانا ومشاكلنا بالطريقة الأمثل، تكرس قيما سلبية أبسطها مسألة النجم الأوحد وأكبرها النزعة الاستهلاكية، كما أنها تفتقد المنافسة فيما بينها، وهي التي يحتاجها المشاهدون، وبالتالي تعجز دوما عن تحقيق سبق درامي مختلف ومميز ولافت.
الاستهلاك الشرس
السؤال الآن هو: كيف نفهم هذا الحضور الطاغي لكم الأعمال الدرامية في رمضان بما يرافقها من إعلانات وترفيه يمتلك القدرة على تحويل الشهر إلى 30 يوما من "أعياد الكريسماس"؟ كيف نفهم هذا التصاعد والتعدي على الناس بتلك السلاسة والقوة والذي حول الشهر من إيمان ومغفرة لموسم مخصص للإنتاج التلفزيوني؟ كيف نفهم هذا الحضور التجاري البحت في شهر ديني؟
بداية وقبل الخوض في التفاصيل علينا الوعي أن السوق الحر الذي يرسخ قيم الاستهلاك الشرس لا يفرق بين عمل فني وبرنامج ديني، بل الأمر عبارة منظومة متكاملة، وهو ذات الأمر الذي انعكس على المشاهدين وعاداتهم في فعل المشاهدة، فهم يغرفون من الشاشة في تسمرهم أمامها لساعات.
السابق كله يقود لمضاعفة نزعة الاستهلاك، تلك النزعة التي ترتبط بكل المنتجات التلفزيونية وحتى الصحف والمحطات الإذاعية ومواقع الإنترنت.
السوق وفق النظرة الرأسمالي في منطقتنا العربية كافر ولا يعرف دين، وهو ليس محايدا بل إن عدم فهمه سوى لغة الكسب يجعله يوغل في استثمار الشهر الكريم حتى لو دفع ذلك إلى فقدانه للقيم والأجواء التي يفترض أن يأتي بها الشهر، فهو يسعى طوال الوقت لاستثمار الدين لتحقيق أهدافه، (خذ مثلا الأخبار التي تقول عن دفع بعض المولات الضخمة لمقرئين وشيوخ ودعاة ليؤموا الناس فيها في التراويح بكل ما يملكون من قدرة على جذب الناس واستقدامهم).
ووسائل الإعلام وفق هذا المفهوم لا تتعامل مع المشاهد وفق منظور إنساني (على أنه إنسان) أو منظور مرتبط بأنها تقدم له حاجاته الأساسية، بل تنظر إليه وفق رؤية مادية وبكونه مصدرا للكسب وتحقيق أعلى الإيرادات، فتغرق المشاهد بمصادر الترفيه وتغازله بما لذ وطاب بشكل براق مبهر كي تحقق مكسبها من "كرنفال الشهر الفضيل".
المشاهد في عملية انزلاق كبيرة، والدراما وغيرها من البرامج والمنتجات الفنية تستقوي عليهم بالقصص والنجوم والإعلانات والألوان وبقية المثيرات وخلطات الإبهار... إلخ، يكتشف المشاهد أن أمامه أكثر من 64 خيارا ضمن فئة المسلسلات التي اكتظت بالنجوم المفضلين وبالصور الجاذبة، وأن بانتظاره المئات من برامج المنوعات، ويكتشف أن القنوات الجديدة تطلقها له خصيصا في هذا الشهر، يجدها في انتظاره وكأنه لا يكفيه ما هو أمامه وما اعتاد على تجريبه.
المشاهد المسكين
والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه لصراع على مواعيد البث، فبعض القنوات بثت مسلسلاتها قبل رمضان بيوم واحد، وهناك قنوات تعده بإرسال ملخصات للحلقات قبل بثها بيوم أو يومين، وهي تتيحها على الشبكة بعد بثها بيوم (وكله بحسابه من جيب المواطنين وتفكيرهم وتخليق أولوياتهم)، وأمام كل ذلك على المواطن أن يدرك أنه إن لم يتجاوب مع هذا الاستقطاب فسيكون خارج المشهد وبعيدا عن السياق الحقيقي لرمضان!! والمطلوب منه أن يتحضر.. ينتظر.. ويترقب.. ويشاهد ما تقذفه الشاشة في وجهه.
في السابق كانت الدعوات ترتبط بضرورة أن يتحول الشهر إلى وسيلة لمحاربة الاستهلاك المادي الشرس (على شكل طعام وشراب) وهو ما لم يتحقق بل يتضاعف في كل رمضان أيضا، اليوم أصبحنا أحوج إلى دعوات لمواجهة الاستهلاك المعنوي الشرس أيضا.
صحيح أن الواعي بالمشهد كله سيقول: مساكين هم مشاهدو التلفاز في رمضان، فهم محاصرون من مختلف المجالات، لكن هذه المسكنة لا تفيد عاقلا ولا تحقق فائدة لطالب أجر وراغب في الهروب من هذا الحصار اللاآدمي، ومع ذلك لن يكون الرهان إلا على المشاهد "المسكين" ذاته الذي فيما لو حكم وعيه وفهمه للشهر الفضيل تارة ولواقع السوق الإعلامي تارة أخرى لأصبح لزاما عليه الإيمان بضرورة مقاطعة الفضائيات، وهو إيمان قد يقود بالضرورة لفعل الترشيد، ربما هو المبتغى وسقف المنى، وفي ذلك أضعف الإيمان.
ربما هي فرصة مثالية لاختبار صبر الصائم وجلده في التوقف عن المتابعة التلفزية، وهذا أيضا من سمات الشهر الفضيل..
وليرعنا الله.