عمر غازي
على الرغم من التطور المذهل الذي لحق بوسائل الاتصال وتكنولوجيا
المعلومات، وما نتج عن ذلك من دخول وسائل اتصال جماهيري جديدة كالإنترنت
والفضائيات ومن قبلها الإذاعة، لعبت ولا تزال دورا مهماً في حياة الناس
وتشكيل أفكارهم والتأثير على سلوكياتهم وأفعالهم، إلا أن دور المنبر وخطيب
الجمعة يظل الأقوى فاعلية في نفوس الناس والأقرب إلى قلوبهم ووجدانهم
والأعظم تأثيراً في المجتمع ربما من جيوش حاشدة!! وذلك لكونه وسيلة
إعلامية يقبل عليها الناس أداءً لفريضة دينية، الأمر الذي يضفي عليها صيغة
القداسة، بخلاف أية أداة إعلامية أخرى، مما يجعل المتلقي أكثر استعداداً
للقبول والاقتناع.
فإذا كان من المستحيل أن تجبر أي سلطة - مهما بلغت من القوة والجبروت-
الناس على قراءة صحيفة أو مجلة أو مشاهدة برنامج تلفزيوني ما، فإن جميع
فئات المجتمع على تنوعها رجالا ونساءً أطفالا وشبابا وكهولا تجتمع على
صلاة الجمعة، كما تلتقي شرائح المجتمع على اختلاف ثقافاتها ومشاربها قادة
وسياسيين وعلماء وأدباء وأطباء ومهندسين .. وكذلك العمال والزراع والصناع
والتجار، أغنياء وفقراء، جميعهم إلى المنبر: تشرئب أنظارهم.. ولكلمات
الخطيب تصغي آذانهم في سكينة ووقار.. وقد ملأ الرضا قلوبهم وتشوقت جوارحهم
إلى ما عنده راغبين طائعين.
وفي الوقت الذي يتعين على جموع الحاضرين بعد انقضاء الجمعة الحديث عن
فائدة ألموا بها أو مسألة فقهية تعلموها أو موعظة أثرت في نفوسهم... يكون
الحديث غالباً عن خطيبهم الذي أطال متأففين ضجرين، في حين يكون الآخرون
على النقيض متباهين مفتخرين مسرورين لأن خطيبهم حطم الأرقام القياسية في
قصر الخطبة!! وما بين هؤلاء وهولاء تكمن المأساة وتقع اللائمة على كثير من
الخطباء الذين لم يدركوا المقاصد الجليلة السامية من خطبة الجمعة ولم
يستشعروا عظمة المهمة التي أسندت إليهم فلم يقتدوا بما كان عليه إمام
الخطباء وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا صلوات ربي وسلامه عليه ومن بعده
الخلفاء الراشدين ومن تبعهم.
فنلاحظ أن كثيراً من الخطباء يطيل الخطبة لدرجة أن يملها الحاضرون
ويسأمونها فتجد الكثير منهم يتثآئبون وربما ثقلت رؤوسهم وأدركهم النعاس،
وشعروا بالحنق والضجر تجاه خطيبهم، وانشغلوا بالتذمر والتأفف والضيق عن
سماع خطبته، وإطالة الخطبة على هذا النحو مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم
إذ يقول : { إِنَّ طول صلاة الرجل، وقصَر خطبته مَئِنةٌ – أي: علامة- من
فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا اَلخطبة، وإِنَّ من البيان لسحْرا } رواه
مسلم.
فالواجب على الخطباء مراعاة أحوال المأمومين على اختلافهم ففيهم الشيخ
المسن الهرم، والمريض، والصغير والضعيف، وصاحب الحاجة ومن يُطمَع في تأليف
قلبه للطاعة والعبادة، وقصر الخطبة لا يعني بحال الإخلال بها فتخرج مفتقرة
للهدف الذي جعلت من أجله كما يفعل البعض الآخر على النقيض.
كذلك من الأمور التي يجب مراعاتها لدى الخطيب تنوع موضوعات خطبه وملاءمتها
لواقع أمته ومجتمعه فالخطيب الناجح لابد وأن يكون معايشاً لإخوانه في
همومهم وأفراحهم وأتراحهم يشاركهم ويوجههم ويرشدهم ويذكرهم.
وممَّا يحز في النفس أن تجد خطيبًا قد اجتمع عنده الناس راغبين طائعين لله
غير مجبرين ولا راهبين، وهو مع ذلك يوبخهم ويحذرهم في فظاظة وغلظة، بصوت
مرتفع ونبرة نشاز، وكأنهم قد أساءوا الأدب معهم أو خالفوه في أمر ما!!
وهذا الفعل مع ما فيه من مخالفة هدي الكتاب والسنة، فهو مدعاة للتنفير منه
وعدم الاقتناع بما يدعوا إليه، وهو أيضا سبيل العاجز والله تعالى يقول: "
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
ما سبق ليس هجوما على الخطباء ولا تنقصاً منهم بل هو محاولة لرصد الأخطاء
وعلاجها ودعوة للتصدي لقلة قليلة لا تعي خطورة وعظمة الدور المناط بها.
وإذا كان من عتب ولوم فإنه يقع في المقام الأول على كاهل الجهات المعنية
في الدول الإسلامية من وزارات الشؤون الإسلامية ومن قبلها الجامعات خاصة
الكليات المعنية (كليات أصول الدين والشريعة وغيرها)، التي لم تساهم في
إعداد الخطيب على الوجه الأمثل، وكيف لها أن تفعل وهي في الغالب لا تضم
إلا ضعاف الطلبة وأقلهم مجموعاً دون تمييز، ومن المعلوم أن الخطابة في
الأساس موهبة فمهما درس الدارس وتعلم، فلن نستطيع أن نصنع من العيي خطيباً
ولا من معقود اللسان فصيحاً طلقاً، فالكتب والمناهج والدراسات إنما هي
كالسراج يضئ في العتمة ومعلوم أن السراج المنير لا يستفيد منه سوى المبصر،
فلابد أن يكون هناك اختيار دقيق وعناية في اختيار الطلاب والراغبين في
دراسة العلوم الشرعية سيما الخطابة والوعظ والإرشاد، كذلك يجب أن يكون
هناك تدريب عملي على الخطابة والوعظ للخطيب وللدارس في الكليات المعنية (
أصول الدين – الشريعة ..وغيرها) طوال فترات دراسته مثلما يحدث في نظيراتها
من الكليات الأخرى كالطب والهندسة، وبرأيي الخطيب والواعظ والداعية حاجته
إلى التدريب وحسن الإعداد أحوج من غيره فبكلماته تتشكل العقول وتوقظ
القلوب الميتة، وبسببه بإذن الله يبصر الغافلون ويرجع التائهون، وتنهض
الأمة.